حلب

الحضارة و العراقة

تعتبر مدينة حلب من أقدم المدن في العالم، حيث أن عمرها تجاوز ال 5000 آلاف سنة قبل الميلاد، هي المدينة الروحية بسوريا، فقد حافظت على التاريخ والتراث. تعاقبت عليها حضارات عدة مثل: الآشورية، الفارسية، الرومانية، والبيزنطية ثم الإسلامية، وتعتبر العاصمة العلمية والاقتصادية لسوريا، كانت منذ القدم ممر طبيعي للتجارة ما بين آسيا وأوروبا وشمال أفريقيا، ومركز استراحة للقوافل التجارية، والسبب هو موقعها الاستراتيجي المهم.

في عام 2006 نالت المدينة لقب (حلب عاصمة الثقافة الإسلامية) وقد جاء هذا الاختيار من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته المنعقدة بالجزائر عام 2004 نظرا لأهميتها التاريخية والثقافية، كما أنها مرتعا للطرق الصوفية وتزخر بالزوايا التي تدار فيها حلقات الأذكار والعبادة.

ومدينة حلب متوجة بقلعتها الشهيرة التي تعتبر من أكبر وأقدم القلاع في العالم، وهي توجد في قلب المدينة القديمة، يتوسطها مدرج روماني كبير على شكل مسرح تقام فيه الحفلات والمهرجانات، وتتضمن أبوابا عدة تحيط بالمدينة وهي: باب الحديد، باب أنطاكية، باب النصر، باب قن سرين، باب الفرج، باب المقام، باب الجنان، باب الأحمر، باب النيرب.

ما من بلد عربي نال من الشهرة والصيت في فن الموسيقى مثل ما نالته مدينة حلب، وما من بلد عربي أخرج عدداً كبيراً من الفنانين خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين كما أخرجت هذه المدينة العربية العريقة، وما من فنان كان يحضر إلى مسارح حلب مغنياً أو عازفاً قبل أن تعم السينما وتنتشر أجهزة الراديو والتلفزيون، إلا وكان يهتز قلبه خوفا من لقاء أهل هذه المدينة التي لا ترحم من يقدم لها فنا رخيصا مهما كان شأن هذا الفنان في المجد والشهرة.

حدثنا باحث موسيقي معروف عن قصة عازف مشهور من عازفي (القانون) أنه لم يزر بلداً عربياً ويخرج فيه إلى الناس ثم ترتجف يداه رهبة من المستمعين “إلا حينما زار حلب”، وخرج إلى أهلها يقدم إليهم فنه.

كما أن لموسيقار الأجيال الأستاذ محمد عبد الوهاب قصة حقيقية و طريفة رواها بنفسه، حصلت معه حين زار حلب لأول مرة من أجل إحياء حفلات، إذ أنه غنى في جميع المدن دون أن يهاب، فلما جاء حلب كان متخوفا لما سمعه عن أهلها و عن تذوقهم للطرب الأصيل، ففي حفلته الأولى لم يحضر إلا نخبة قليلة من السميعة، فغنى و انصرف من مكان الحفل متألما مصدوما، و في اليوم التالي ازدحمت القاعة بالجمهور و قد عرف سبب ذلك، إذ قيل له لاحقا أن المجموعة التي حضرت في الليلة الأولى هي عينة من السميعة التي تمثل أهل حلب، فلما أقروا به و أشادوا، تشجع البقية على حضور حفل هذا المطرب الصاعد آنذاك.

فما هو سبب شهرة حلب بالموسيقى والفن بشكل عام؟ وما هو سبب تنوع أنماط الموسيقى بحلب؟ ومن أنجبت حلب من المشاهير؟

كما قلنا سابقا أن حلب كانت منذ القدم ممر طبيعي للتجارة ما بين آسيا وأوروبا وشمال أفريقيا، ومركز استراحة للقوافل التجارية، حيث كان يرافق هذه القوافل بعض المغنيين والموسيقيين الذين كانوا ينشدون ويعزفون أمام أهل حلب، مما أكسبهم معرفة بألوان الفنون وأنواعها. وإذا  علمنا أن (الفارابي) كان من أشهر الموسيقيين في ذلك العصر، كما كان عازفاً بارعاً على العود، و أنه قد ألف كتباً شهيرة في الموسيقى لأدركنا إذاً من أين بدأت نهضة حلب و شهرتها بهذا الفن الرائع الجميل، و يبدو أنه كتب لحلب من الحظ في هذا الميدان ما لم يكتب لغيرها من بلاد العرب في هذه الحقبة من التاريخ.

فكتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني – وهو من أمهات الكتب العربية – قد كتبه صاحبه في حلب، وذلك في عهد الحاكم سيف الدولة. وقد كان لحلب الأثر العظيم في نهضة مصر الموسيقية بإقرار الكثير من المصريين الذين كتبوا تاريخ الموسيقى في مصر، وبحثوا عن أسباب نهضتها.

كما أن (عبده الحامولي) المولود عام 1843م والمتوفي عام 1901م والشيخ سيد درويش المولود عام 1892م والمتوفي عام 1923م اقتبسا النهضة الموسيقية في مصر من فناني حلب.

فقد ذكر (عبد المنعم عرفة) الأستاذ في المعهد الموسيقي في القاهرة بكتابه (أعلام الموسيقى العربية) فقال: إن عبده الحامولي قد هذب التواشيح والقدود فخلقها خلقا جديدا، حيث بث فيها من روحه مستعينا بالطريقة الحلبية. وللإشارة فإن الشيخ سيد درويش بعد إكمال دراسته الموسيقية في حلب وعودته إلى مصر، لحن الموشح المعروف “يا شادي الألحان”.

مدينة العلم والفن، والثقافة والحضارة أيضا، إذ كانت ولا تزال مهدا لمعظم الموسيقيين والفنانين العرب، وتزخر بالعديد من المعاهد الموسيقية، وقد أنجبت العديد العلماء والشعراء، منهم: الفارابي، ابن سينا، المتنبي، أبو فراس الحمداني، البحتري، وأبو العلاء المعري. كما أنجبت العديد من الفنانين والمطربين الكبار أمثال الملحن الكبير الشيخ عمر البطش (الذي لحن موشح “يمر عجبا” و”يا ذا القوام” و كذا موشح “قم يا نديم”) و الذي أقام عنده الشيخ سيد درويش و تعلم منه أصول الموسيقى العربية و الموشحات، و أيضا من الملحنين الكبار الشيخ بكري الكردي (الذي لحن دور “القلب مال للجمال” و الأغنية الشهيرة “ابعث لي جواب)”، و الشيخ علي الدرويش الذي يعتبر من كبار الملحنين أيضا، كما أنها أنجبت الفنان الكبير الأستاذ صباح فخري الذي كان له الفضل الكبير في الحفاظ على التراث العربي الأصيل و نشره في العالم العربي و الغربي، و نذكر أنه لحن عددا مهما من الأغاني و القصائد مثل: موشح “غاب حبي عن عيوني”، قصيدة “قل للمليحة”، قصيدة “حبيبي على الدنيا”، و القصيدة الشهيرة “خمرة الحب”.

وهناك العديد من الفنانين والأساتذة الذين يعتبرون من كبار مطربي ومنشدي حلب أمثال: الشيخ صبري مدلل، المطرب محمد خيري، الأستاذ عبد القادر الحجار، الأستاذ بهجت حسان، المطرب محمد أبو سلمو، المنشد أديب الدايخ، المنشد حسن الحفار، والمطربة ماري جبران، والمطربة مها الجابري وغيرهم.

هذه هي حلب، مدينة الفن والإبداع، الأصالة والعلم، ومدينة الحضارة الثقافة.